أربعة اعتبارات في العمل النحتي
المنحوتة شكل مجسم يأخذ من الفراغ ويتفاعل معه ليعطي مشهداً بصرياً من زوايا متعددة، و إذا كانت المنحوتة ترى من جميع الجوانب فإنها أيضا بوجه و ظهر، و على النحات و صاحب الرؤية الفاحصة للمنحوته أن يأخذا في الاعتبار ما يلي:
1- التوجيه Orientation
إن تغيير الوضع الذي تأخذه المنحوتة يغير معناها، و التخيل المسبق يساعد على اختيار الوضع الذي تأخذه المنحوتة لتضمينها المعنى الذي قصده النحات، و لو تم تغيير وضع المنحوتة بعد اكتمالها فإنه من شبه المؤكد أن مضمونها سيتغير. التوجيه أمر مهم وقرار يتخذه الفنان في إطار التصور الأولي للعمل. من بين 360 درجة أفقية و 360 درجة عمودية و عدد لا حصر له من الزوايا البينية يختار الفنان وضعاً معيناً تأخذه المنحوتة، و إذا كان الوضع العمودي هو الغالب فإن إمالة العمل توحي بشيء مختلف يميز المنحوتة. وعلى الرغم من قلّة المنحوتات ذات الوضع الأفقي إلا أننا نجدها في بعض أعمال كبار النحاتين المعاصرين كهنري مور.
وفي مجال فن الملتقطات (Found Objects Art) أو بمعنى آخر استخدام المواد المسبقة التشكيل طبيعيا أو بفعل إنسان آخر، فإن التوجيه يضيف قيمة حقيقية ذات مغزى و دلالة تعبر عن فكر وفلسفة الفنان ، وهو بحد ذاته إضافة توحد بين رؤية الفنان وطبيعة القطعة، و مثال ذلك الجذع الطبيعي الذي لم يتدخل الفنان سوى باختياره فإن المعنى الذي يوحي به سيكون مختلفا بحسب وضعه: منتصب أو مائل أو مستلقٍ. ولا يكاد يكون هناك حد لتوظيفه بتغيير التوجيه أو تعديله أو الحذف منه أو تركيبه مع قطع أخرى.
2- الشكل والمظهر Form and Appearance:
المنحوتة تأخذ شكلاً منتظماً أو غير منتظم، هندسي أو عضوي، فالأول مثاله الكروي أو المكعب أو الأسطواني و الثاني يأخذ شكل الكائنات الحية أو أجزائها كعروق الأشجار و الأصداف و العظام، وقد يتأثر العمل بشيء معين آخذاً سمته الأساسية بصورة مختزلة لا تخطئها العين، ذلك أن عقل الإنسان يختزن صور الأشياء من حوله و ما أن يرى شيئا جديداً حتى تتبادر إلى ذهنه أقرب الصور المختزنة، وعند عرض المنحوتة فإن الناس عادة يربطون بينها وبين هذه الصور، وقد يكون هناك اتفاق عام بينهم على أنها تمثل الشيء الفلاني. و بطبيعة الحال فإن المنحوتات الواقعية تأخذ الشكل الأصلي إلا أن النحات يضعها في أوضاع خاصة، وتضفي عليها الخامة و الفعل النحتي صفات تجعلها تختلف عما تمثله في عالم الواقع.
قد تقترب المنحوتة مظهر نوع من أنواع الحيوانات كالحصان، أو أجزائها كالعين أو القرون، أو الجمادات كالشمس أو السيارة.
وعلى الفنان أن يكون شديد الحساسية في تعامله مع هذه القيمة لأنها تحدد إلى حد كبير المعنى أو المضمون الذي سيتبادر إلى ذهن المتلقي، على أن الأعين قد تختلف في تقريبها للأشياء حسب الخلفية البصرية للرائي الذي ينبغي أن يتجاوز الدلالات المباشرة إلى القيمة الفلسفية للشكل والمظهر.
3- الحجم Scale
المنحوتة قد تكون بالحجم الطبيعي أو أصغر منه أو أكبر . و الذي يحدد الحجم ليس بالضرورة مضمون العمل بل أمور عملية يراعيها الفنان. و أول ما يتبادر إلى الذهن على سبيل المثال، أين سأعرض أو أضع هذه المنحوتة؟ ما المدى المسموح لاقتراب المتلقي من العمل؟ المبالغة في الحجم ليست بالضرورة أمراً محموداً، بل إن الأفكار قد تأخذ أحجاما مثالية ليس من الحكمة مضاعفتها إلا في حال الرغبة في عرضها في أماكن مفتوحة محاطة بكتل ضخمة. وفي بعض الأحيان قد يعطي الحجم الضخم معنى العظمة إلا أن هذا لا يعني أنها أكثر إيحاءً من المنحوتات الصغيرة المتقنة الصنع. يقول هنري مور:
(يمكن أن تكون المنحوتة أكبر من حجمها الطبيعي مرات عدة ورغم ذلك يمكن أن تكون تافهة وصغيرة في توليدها للمشاعر ويمكن لمنحوتة صغيرة لا يتجاوز ارتفاعها بعض الإنشات, أن تمنح الشعور بحجم ضخم وعظمة تذكارية, لأن الرؤية التي تكمن خلفها كبيرة. )
وفي السياق ذاته يقول عبد الجبار اليحيا: (لست أدري ما هو المقصود مثلاً من تكبير دراجة هوائية عدة مرات ووضعها في ميدان!)
4-0اللون Color
قضية اللون تحمل مفارقة مهمة بين النحت والتصوير التشكيلي، ذلك أن النحت يركز على الشكل، و الظلُّ فيه حقيقي تلقيه أجزاء الكتلة فلا نحتاج فيه إلى تجسيم تمثيلي بدرجات الألوان، بعكس التصوير التشكيلي. وقيمة اللون كإحدى خصائص المنحوتة تبدو أقلَّ من الخصائص السابقة إلا أنها ليست غفلا لا يلقي النحات لها بالا، غير أن النحات يختارها مع اختيار الخامة لمنحوتته. أما طلاء المنحوتة بعد انتهائها فأمر فيه نظر باستثناء الطلاء الذي لا يحجب الخامة الأصلية، إذ تزيد قيمة المنحوتة بإظهار لون المادة الأصلية وقد تكسبها العوامل الطبيعية لوناً معتّقاً يزيد من تأثيرها.
ومن الملاحظ أن النحاتين العالميين الذين يستخدمون الأحجار قديماً وحديثاً يميلون إلى استخدام الأحجار ذات الألوان المصمتة، ذلك أن عدم انتظام لون المنحوتة قد يؤثر على شكلها مشوهاً المضمون، بل و يصرفه عن المعنى المقصود. قد يكون للون تأثير جيد في بعض المنحوتات الجمالية لكن لا ينبغي التنافس في البحث عن الغريب من الألوان، إذ أن ذلك ليس له قيمة كبيرة في التقويم الحقيقي للمنحوتة من الناحية الفنية، و إن قدرت بأكثر مما تستحق لدى عامة الناس لجمال الخامة.